كلمة رئيس الجمهورية العماد ميشال عون في الجلسة العامة للبرلمان الاوروبي ستراسبورغ في ١١ أيلول ٢٠١٨
سعادة الرئيس انطونيو تاجاني
سعادة النواب ،
يسرُّني أن أكون اليوم في مقر البرلمان الأوروبي في ستراسبورغ، أمام ممثلين تشريعيين لثماني وعشرين دولة، اختارت أن تجعل القارة الأوروبية نموذجاً لا مثيل له في العالم، من التبادل والتكامل والوحدة في كافة المجالات حتى أضحت دول الاتحاد الأوروبي مساحة فريدة تنصهر فيها أحلام الشعوب، وتتشارك المبادئ والمثل، في الوقت الذي يحافظ فيه كل شعب على خصوصياته، وعمقه الحضاري، وشعوره بالانتماء إلى أرض، ووطن، ولغة، وتراث.
إن قوة هذا الصرح الديمقراطي تكمن في بناء السلام الحقيقي في القارة الأوروبية وانتفاء نزعة الحرب لحل المشاكل واقتناع مجموعة كبيرة من الدول والشعوب بأن قوتها، ومصالحها، وازدهارها، هي في وحدتها لا في النزاع بينها، وفي مشاركتها قيم الديمقراطية. ومن المؤسف ما نشهده حالياً من ظهور بعض النزعات الانفصالية التي تهدّد هذا الصرح الطليعي في تلاقي الشعوب
أيها الحضور الكريم،
في هذه المرحلة من تاريخنا، التي خَفَتَ فيها صوت الانسانية وتخطت مصالح الدول الكبرى أقصى الحدود على حساب العدالة والتضامن الانساني، لا نجد إلا في الحوار والاحترام المتبادل والعودة إلى تطبيق المبادئ العالمية لحقوق الانسان والمجموعات والدول، سبيلاً إلى تبريد محركات العنف والحروب والتطرّف، التي جعلت من منطقتنا أتوناً مشتعلاً بالكراهية، والخوف، والاضطرابات.
فالحروب، وإن يكن الاقتصاد محركها الحقيقي، إلا أنها لا يمكن أن تندلع على أرضية صلبة؛ هي تحتاج لأرضية متفسخة متخلخلة جاهزة لتقبّل الاشتعال. وليس هناك أفضل من إذكاء نزعة التعصب والتطرف المذهبي والطائفي والعرقي ورفض الآخر لإحداث التفسخ المطلوب وتحفيز الشعوب وإشعال الحروب.
إن ما يحيط بنا اليوم، يجعلنا أكثر تمسّكاً بالأسس التي نشأت عليها دولة لبنان، وعلى رأسها النظام الديمقراطي الذي، وعلى الرغم من بعض الشوائب التي لا زالت تعتريه، قد التقت حوله مكونات الشعب اللبناني، وعكس في جوهره رسالة لبنان، بلداً للتعايش والتنوع والغنى الحضاري والثقافي.
لقد انقسم لبنان سياسياً في الآونة الأخيرة بسبب حروب الجوار ولكنه لم ينقسم وطنياً، ارتفعت الأصوات فيه عاليةً ولكنه لم ينحرف نحو العنف، وكان الخطاب لاهباً ولكن لهيبه لم يشعل النار. وعندما شذّ البعض وجنحوا نحو التطرف والفكر التكفيري سرعان ما لفظهم مجتمعهم وبيئتهم؛ فالمجتمع اللبناني بطبيعته ليس بيئةً حاضنة للتطرّف ورفض الآخر. واحترام حرية المعتقد والتعبير والرأي وحق الاختلاف هي جزء من ثقافة اللبنانيين.
هذه الخصوصية اللبنانية تساعد لبنان على تخطي مشاكله وعلى ترسيخ سلامه واستقراره، كما تلهم دولاً أخرى معالم الدرب إلى مستقبل أكثر انسجاماً مع العصر وحقوق الانسان، خصوصاً اذا ما نجحنا في ازالة الشوائب وبلوغ النضج الديمقراطي.
هذه الخصوصية اللبنانية تساعد لبنان على تخطي مشاكله وعلى ترسيخ سلامه واستقراره، كما تلهم دولاً أخرى معالم الدرب إلى مستقبل أكثر انسجاماً مع العصر وحقوق الانسان، خصوصاً اذا ما نجحنا في ازالة الشوائب وبلوغ النضج الديمقراطي.
أيها الحضور الكريم،
في شهر أيار من العام الحالي، شهد لبنان إجراء انتخابات نيابية على الرغم من بعض التجاذبات السياسية الحادة التي أخَّرت حصولها، وذلك وفق قانون انتخابي حديث ، يرتكز على التمثيل النسبي للمرَّة الأولى في تاريخ لبنان. وقد أفضى إلى تمثيل أكثر دقة وتوازناً من القانون الأكثري السابق، لكافة القوى السياسية، والى تنوع أكبر في مجلس النواب، يعزِّز الحياة الديمقراطية.
ولا بد لي في هذا السياق من التنويه بالعمل الذي قامت به بعثة الاتحاد الأوروبي لمراقبة الانتخابات برئاسة السيدة ايلينا فالنسيانو التي رافقت مراحل الإعداد للانتخابات وعمليات الاقتراع التي جرت، وقدّمت في شهر تموز الماضي تقريرها الذي عكس انطباعا إيجابياً عن العملية الانتخابية، ، مقترحاَ عدداً من التوصيات الجديدة التي من شأنها ازالة بعض الشوائب، والتي ستؤخذ بعين الاعتبار دون شك في المستقبل.
ونتطلع في المرحلة المقبلة إلى تعزيز أطر التعاون بين مجلسنا النيابي والبرلمان الأوروبي، وتكثيف اللقاءات المشتركة وتبادل الخبرات، للارتقاء بالأداء التشريعي تناغماً مع متطلبات العصر والتطور.
أيها الحضور الكريم،
إن لدى وطننا الكثير من التحديات التي تواجهه، وعلى رأسها، الأوضاع الاقتصادية الصعبة. وقد أطلقنا في الفترة الأخيرة الخطوط العريضة لخطة اقتصادية ترسم خارطة الطريق لتفعيل القطاعات الانتاجية، وتحديث البنية التحتية،. وقد جاءت هذه الخطة متناغمة مع مقررات مؤتمر "سيدر".
لقد وضعتُ على رأس أولوياتي مكافحة الفساد وتعزيز الشفافية والمحاسبة. وقد بدأنا بالفعل بتحقيق بعض الخطوات الإيجابية على هذا الصعيد، لكن العمل الأساسي سينطلق مع الحكومة الجديدة التي تقع على عاتقها مسؤولية تطبيق خطة النهوض الاقتصادي ومقرّرات مؤتمر "سيدر"، لإرساء الاستقرار والازدهار في البلاد.
أيها الحضور الكريم،
لقد تحمّل لبنان عبء أزمات المحيط، اقتصادياً واجتماعياً وأمنياً، وتسلل الإرهاب الى جروده الشرقية والشمالية جاعلاً منها منطلقاً لعملياته الدموية في الداخل اللبناني، إلى أن قام جيشنا بعملية عسكرية نوعية ، دحر خلالها الإرهابيين وتابع مع سائر الأجهزة الأمنية المختصة استئصال الخلايا الإرهابية النائمة حتى تم القضاء عليها نهائياً، وتحقق للبنان الأمن والاستقرار.
ويبقى النزوح، وخصوصاً السوري منه، من أكثر تداعيات حروب دول الجوار ثقلاً علينا، اقتصادياً وأمنياً واجتماعياً ؛ فمن باب التضامن الإنساني استقبل لبنان أكثر من مليون ونصف نازح سوري، فرّوا من جحيم الحرب في بلادهم. لكن، في بلد صغير المساحة، كثيف السكان، محدود الموارد، يعاني من ضعف البنى التحتية وتزايد البطالة، لا بد أن تدركوا بسهولة مدى العبء الذي نتحمّله، في وقت لم يتحمّل المجتمع الدولي مسؤولياته لدعم لبنان في التخفيف من تأثير هذا النزوح، انطلاقاً من مبدأ تقاسم الأعباء والمسؤوليات بين الدول.
وفي هذا الإطار، ندعو الى تفعيل قرارات الدعم المادي التي اتخذت خصوصا في مؤتمر بروكسيل برغم تحفظنا على بعض ما جاء في بيانه الختامي، والمتعلق خصوصاً بمسألة العودة الطوعية للنازحين وربطها بالحل السياسي، وانخراطهم في سوق العمل في الدول التي نزحوا اليها. ولا بد من التذكير هنا بأن لبنان هو بلد هجرة وليس بلد استيطان أو سوقاً مفتوحة للعمل، وأبناؤه المنتشرون في كل أصقاع العالم، وللقارة الأوروبية منهم نصيب كبير، هم خير شاهد.
إن لبنان، يسعى لتأمين العودة الكريمة والآمنة للنازحين إلى ديارهم، ويرفض أي مماطلة في هذا الشأن، ويؤيد كل دعم لحل مسألة النزوح السوري المكثّف إلى أراضيه، على غرار المبادرة الروسية، ويرفض ربطها بالحل السياسي الذي قد يطول أمده. ونذكّر هنا، أن الشعب الفلسطيني لا يزال منذ العام ١٩٤٨ يعيش في المخيمات في دول الشتات، وخصوصاً في لبنان، بانتظار الحل السياسي وتنفيذ القرار ١٩٤، وها هي ملامح هذا الحل بدأت تظهر بعد ٧٠ عاماً من الانتظار منبئة بمشروع التوطين، وكأن المجتمع الدولي يعتمد سياسة "وهب ما لا يملك لمن لا يستحق.
أيها الحضور الكريم،
يصادف اليوم ذكرى الحادي عشر من أيلول الحدث الذي غيّر مسار أحداث العالم، خصوصاً بعد أن أعلنت الولايات المتحدة على أثره الحرب على الإرهاب واعدةً بتحرير العالم منه، وبالحرية والديمقراطية للشعوب؛ ولكن الذي حصل، وبعد 17 عاماً ولغاية الآن، أن محاربة الإرهاب تلك عمّمت الإرهاب على كل العالم عوض أن تقضي عليه.
واقتبس هنا من كتاب مفتوح وجهته الى حكام العالم في العام ١٩٩٥ أحذرهم فيه من خطر تنامي الأصولية التي بدأت تظهر في بعض الدول:" إن الأحداث الأخيرة في البوسنة والجزائر، وبنسبة أقل في باريس، ليست سوى إشارات تنذر بصراعات مهددة لغدنا، تعجز عن تداركها الروادع النووية والحروب التقليدية. إن الأصولية، وليدة انعدام التوازن في تطبيق الحق الدولي، والحرمان الناتج عن نمو غير متكافئ، قد تُغرق حضارة بكاملها في الظلامية.
فلا أحد بمنأى عن العنف الذي يولّده انفجار المشاعر العرقية والأصولية، والذّي تعجز أي حدود عن احتوائه. ألا يمكن لتلك الجراثيم، التي تغذّت في مختبرات الواقعية السياسية، أن تنقل العدوى الى أولئك اللامبالين والمشاركين، الذين تركوها تتكاثر؟"
وللأسف إن العالم بأكمله اليوم يعاني من نتائج مختبرات الواقعية السياسية ومن عدم التعاطي في حينه بجدية مع الإشارات المنذرة بالخطر.
أضف الى ذلك، إن السياسات الدولية التي لا تزال معتمدةً في الشرق الأوسط تزيد النقمة وترفع منسوب التطرف وتفسح المجال واسعاً للعنف والإرهاب.
لا شك أن هذه السياسات الخالية من مقياس العدالة، تؤدي الى التشكيك بصحة تطبيق الديمقراطية في الدول التي تُعتبر رائدة في اعتمادها إياها نظاماً سياسياً. فهل تحتمل الديمقراطية الحفاظ على حقوق الإنسان في الداخل، ونحر هذه الحقوق خارج الحدود تحقيقاً لمصالح دول كبرى؟
من نتائج هذه السياسة أنها دفعت بإسرائيل الى تهويد القدس وإعلانها عاصمة لها، ضاربةً عرض الحائط بالقرارات الدولية، وبالتصويت في مجلس الأمن وفي الجمعية العامة. وهي لم تكتفِ بذلك، بل أقرّت قانون "القومية اليهودية لدولة اسرائيل".
واستكمالاً له أتى القرار الأميركي الذي اتُخذ مؤخراً بحجب التمويل عن وكالة الأونروا، وهو بداية لفرض التوطين على الدول المضيفة للاجئين ومنهم لبنان الذي يحظّر دستوره التوطين والتجزئة والتقسيم، وهو يرفض هذا الواقع أيضاً من أجل العدالة والمساواة بين البشر.
أيها الحضور الكريم،
لقد جئت اليكم من لبنان البلد- الرسالة بحسب ما وصفه البابا القديس يوحنا بولس الثاني، حاملاً إيماني برسالة وطنٍ يختزن حضارة عميقة تمتد على خمسة آلاف سنة، سمحت بأبعادها المتعددة، لأبنائه المنتشرين في كل اصقاع الأرض أن يندمجوا مع مختلف الثقافات أينما حلّوا.
وأغتنم فرصة وجودي بينكم هنا، لأعود وأذكِّر بما طالبت به مراراً عديدة، وخصوصاً على منبر الأمم المتحدة، من جعل لبنان مركزاً دائماً للحوار بين مختلف الحضارات والديانات والأعراق، هذا المشروع الذي يتابعه سفراؤنا في مختلف بلدان العالم ونأمل أن يطرح في الدورة المقبلة للأمم المتحدة، في العام 2019، كما نأمل دعماً خاصاً من الدول الأوروبية. ومَـن أكثر من دول أوروبا يعرف أهمية الحوار في رأب الصدوع وبلسمة الجراح وإرساء ثقافة السلام!
كل الشكر على استضافتي بينكم اليوم، وعلى حسن الاصغاء إلى كلمتي.
عشتم، عاشت أوروبا، عاش لبنان!