رسالة مفتوحة من العماد ميشال عون إلى قداسة البابا بندكتوس السادس عشر وإلى سينودس الأساقفة من اجل الشرق الأوسط المنعقد في الفترة ما بين ١٠ و ٢٤ تشرين الأول ٢٠١٠
قداسة البابا بنديكتوس السادس عشر،
غبطة الكرادلة والبطاركة،
سيادة الأساقفة وحضرة الكهنة والرهبان،
حضرة المشتركين في السينودس من أجل الشرق الأوسط،
أيها المسيحيون والمسلمون المشرقيون،
بعد ألفي عام ونيّف على مجيء السيد المسيح وانطلاق بشارته من فلسطين وانتشارها في المشرق، مهدها الأوَّل، ومنه إلى العالم. وأمام هذا المنعطف التاريخي الذي يعيشه المشرق والأخطار التي تهدد وجوده ونسيجه الوطني، والمخططات التي تحاك لتغيير معالمه الحضارية والإنسانية يتوجب عليّ كمواطن مسؤول يتقاسم الهوية المشرقية الواحدة مع أخوة له في المواطنة والدين على هذه الرقعة من الأرض المقدسة، أن أتوجه إليكم بلغة بسيطة واضحة، بعيداً عن الاجتزاء والغموض حيال ما يعترضنا اليوم من واقع مرير، أشرتم إليه، مشكورين، في رسالتكم (آلية العمل) التي تتضمن خطوات السينودس من أجل الشرق الأوسط.
لقد كان دور المسيحيين المشرقيين عبر التاريخ طلاّعاً في الثقافة والعلم والمعرفة، وكانوا إلى جانب المسلمين مذ وطئت أقدامهم بلاد المشرق ووقفوا قرب الخلفاء كروّاد إدارة وعلوم وطب وترجمة حتى غروب العصر العربي الإسلامي وسقوط الدولة العباسية( ٧٥٠ - ١٢٥٨م)، لا بل تنكبوا مهمات تنويرية صعبة في عهود حالكة أتت على المشرق إبان انهمار البرابرة والتتار عليه ، لذلك لم يكن مستغرباً أبداً تنطحهم للتنوير الثاني خلال النزْع الأخير للسلطنة العثمانية في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، في ما سمّي (عصر النهضة العربية) وكانوا الجسر المعرفي الذي أوصل المشرق المشرق الإسلامي إلى الغرب وأتى بمنجزات النهضة العلمية الغربية إلى البلاد المشرقية.
قداسة البابا
من الخطأ مقاربة الواقع المشرقي الحالي من منطلق أقليات وأكثريات، فهذه البلاد منذ فجر التاريخ هي ثمرة تراكم معرفي ثقافي لشعوب كثيرة وديانات شتى منذ ما قبل التوحيد . تراكم جمّعته الأقليات والأكثريات معاً في مزيج عزّ نظيره وتقلبات غيَّرت التوجهات السياسية وأبقت على التنوع المجتمعي والثقافي داخل الجغرافيا، ولطالما كانت هناك أكثرية باتت أقلية ، وبالعكس، وهذا نموذج فريد للغنى الروحي والثقافي والمعرفي، يقتضي منّا جميعاً المحافظة عليه وحمايته في إطار احترام حرية المعتقد والرأي والتعبير وحق الاختلاف، مع التشبث بهذا المشرق، وهذه فحوى الإرشاد الرسولي لسلفكم قداسة البابا يوحنا بولس الثاني.
ولطالما أثبت التاريخ في هذه المنطقة أن التشبث بالجذور والاقتراب من دعوة السيد المسيح في المحبة والسلام هو خشبة خلاص..ليس للمشرق وحده بل للعالم، وكلما اقتربنا من قريبنا في الوطن وأحببناه، كلما أفلَحنا، وكلما ابتعدنا عن محبة القريب كلما جنحنا نحو التقوقع أو السقوط أو الهجرة، ولذلك نأمل من قداستكم تعميم ثقافة الانفتاح لا التخويف والاقتراب لا الابتعاد، لنسير جميعاً إلى حيث يعمُّ السلام وتنتصر المحبة.
قداسة البابا
ولا يخفى على قداستكم أنه لا يوجد سبب واحد وحيد لنزوع المسيحيين إلى الهجرة، وأن مسؤولية النزيف البشري في المشرق لا تقع على الخوف من التطرف الديني فقط، بل إن الوضع الاقتصادي المتردي والسياسي المتقلب والحروب المتتالية منذ الحرب العالمية الأولى والفقر والجوع اللذين لحقا بالمشرق جراءهما، والحرب العالمية الثانية واستعمار المنطقة وتأسيس إسرائيل وتقسيم فلسطين والتطهير العرقي ضد سكانها العرب من مسلمين ومسيحيين، واستكمال الضغوط عليهم لتهجير ما تبقى منهم، ورفض حق عودتهم إلى بلادهم، شكّلت أسباباً أكثر من وجيهة للهجرة، وهنا يندرج مخطط توطين الفلسطينيين في البلدان التي هجّروا إليها، وهو ما نرفضه ونسعى لعدم وقوعه، لأنه يصبُّ في خانة تفريغ الأرض من سكانها الأصليين وجعل مهد السيد المسيح من دون مسيحيين وشطب الهوية الجامعة للأرض المقدسة،
فهل يمكننا تصوّر المسيح والمسيحية من دون القدس وبيت لحم والناصرة وكفرناحوم وطبريا؟
وهل من مسيحية من دون البشارة والمغارة والجلجلة والقبر المقدس وبولس الرسول والتلاميذ الذين انطلقوا ليبشروا كل الأمم؟، وهل من مياه تنساب إذا جف النبع؟
إن الكلام والعمل على يهودية دولة إسرائيل سيجرّّ تهجيراً جديداً وحروباً ومآسٍ وويلات على أرض قال سيغموند فرويد إنها "مثقلة تاريخياً" بأقدس معالم المسيحية وأهم المعالم الإسلامية ومحجة الديانتين الكونيتين، هو إلغاء صريح لرسالتين سماويتين يؤمن بهما أكثر من ٣ مليارات إنسان دفعة واحدة ، وتكريس أحادية دينية يؤمن بها حوالي ١٢ مليون إنسان ، ما يشكل طعنة للحضارة والإنسانية وتأسيساً لحروب مقبلة.
قداسة البابا
من قراءتنا لواقع المشرق الحافل بالتعاون الإسلامي ـ المسيحي، فإن المشرقيين ينتظرون من الفاتيكان بما يمثله من سلطة روحية لدى المسيحيين الكاثوليك، ومعنوية بالنسبة للعالم، وحضور لكرسي بطرس في قلوب المؤمنين، كما ينتظرون من رؤساء الكنائس الأرثوذكسية والبروتستانتية، العمل لدى حكومات وإدارات العالم الغربي لوقف محاولة أبلسة الدين الإسلامي الذي يؤمن به أكثر من مليار إنسان، في تقاليده وعاداته. وأن تتم الدعوة إلى النظر بجوهره ونصّه الديني الأصلي فقط، لا من خلال أفعال مجموعات تكفيرية إرهابية، يرى المسلمون أنفسهم أنهم ضحاياها مثل بقية العالم، وأنها لا تمت إلى دينهم بصلة،
لأن الاستمرار في إطلاق نعوت التطرف على الدين الإسلامي وتعميم مفهوم الرُهاب الإسلامي (الإسلاموفوبيا) سيؤدي حتماً إلى مزيد من الصدامات وعدم الاستقرار في المشرق والعالم ، وربما إلى صراع ديانات وحضارات لا نهاية له إلاّ التدمير الذاتي للعالم.
وكذلك ينتظر المسيحيون المشرقيون من الحبر الأعظم ممارسة الضغط على إسرائيل لوقف تهويد القدس وإحلال السلام في المشرق بناء على قرارات الأمم المتحدة ذات الصلة، والسعي لوقف هجرة الأقوام التاريخية من آشوريين وكلدان وسريان. كما ينظرون إلى الكرسي الرسولي كمساعد على ترسيخ حضورهم في بلادهم ووقف تهجيرهم أو هجرتهم منها وبخاصة في فلسطين والعراق ولبنان، في ظل سياسات تديرها حكومات غربية ودولة إسرائيل للوصول إلى هذه النتيجة.
أما بالنسبة للكنائس المشرقية المتربعة على الكرسي الإنطاكي بمدلولاته التأسيسية لهويتهم المسيحية وتسميتهم كمسيحيين، وبقائه عاصياً في معناه العميق على كل الحروب والاجتياحات والزلازل، فإن المسيحيين المشرقيين يأملون من بطاركة المشرق والكنيسة، من حيث المبدأ، وحدة في النهج وتنسيقاً دائماً، كما أن المسيح واحد في الأناجيل، وعلى الأقل توحيد عيد الفصح في المشرق، ففي هذه الوحدة قوة لحضورهم وفعاليتهم في بلادهم..
كما ينتظرون من الكنائس المشرقية انخراطاً أوسع في العمل الاجتماعي ودعم الشباب وتحفيزهم على الانخراط في العمل الوطني والاجتماعي ودعوتهم ومساعدتهم على البقاء في بلدانهم والابتعاد عن الهجرة ، والسعي لتأمين حضورهم الفاعل في المجتمع، وجعل المدارس التي تديرها الكنائس والرهبانيات موقعاً للوحدة الاجتماعية والتنوير، واستخدام سلطتهم لكتابة تاريخ واحد للمنطقة يؤكد على وحدة المجتمع ودور النشء الجديد في تنكّب مواقع ريادية، وأن الحياة المشتركة هي خيار واعٍ للجميع وأن يحملوا صليبهم وعدم الهروب من مواجهة المشاكل الاجتماعية والاقتصادية بالهجرة، وأن عليهم تحمّل ما يقع من أخطار على المجتمع كمثل ما يمكن أن يجنى منه، المختلف، ويتبعوا خطى السيد المسيح. كما يأمل المسيحيون المشرقيون من كنائسهم السعي لوقف التخويف من الشركاء في الوطن وإلغاء مفهوم الآخر المختلف، وذلك على أساس المواطنة.
وبالنسبة إلى السلطات الزمنية السياسية في الدول المشرقية فإن المسيحيين المشرقيين يأملون منها الحفاظ على نسيجها الاجتماعي والوطني وتاريخها المشترك وتراثها الروحي بالعمل على إلغاء كل معوقات التنمية والتقدم، والسعي لتثبيت الأقوام التاريخية في أرضها ووقف نزف العقول الشابة، وبخاصة المسيحيين، عبر الهجرة، فجميع مكونات المجتمع هم أبناء هذه البلاد، والعمل على محاربة التطرف الديني والحث ثقافياً ودينياً وسياسياً وإعلامياً على محاربة التطرف الديني، وبث روح القرابة والتراحم والمواطنة في المجتمع.
قداسة البابا
حضرة المشاركين في السينودس،
إنها فرصة تاريخية يمكن أن لا تتكرر، فها أنتم تجتمعون مثل اجتماع الرسل بعيد العنصرة، وللمرة الأولى لبحث مآل المسيحيين في المشرق، ولذلك ننتظر منكم قرارات بحجم هذا الوضع، بحجم الصخرة التي بنى عليها السيد كنيسته، وكان مؤمناً بأن أبواب الجحيم لن تقوى عليها، وهو الذي حث إيماننا، ولو كحبة خردل، على زحزحة الجبال...
لقد آمنا جميعاً أن المسيح معنا إلى أبد الدهر، ترك لنا رسالته وبُشراه فلا تدعوا أرضه نهباً للظُلم والظلام، وتصوروا للحظة واحدة مشرقاً من دون مسيحيين،..وقتها فقط سينتصر الشر في العالم ويبطل فعل القيامة، ويذهب الكون إلى مذبحة لا سابق لها.
ولهذا أتوجه إليكم بما أمثل في هذه البلاد التي مشى عليها يسوع لأن تخرجوا بقرارات تبقي السِراج عالياً ومضيئاً وهادياً على العتبة..سراجاً للمشرقيين مسيحيين ومسلمين.